الشرق الأوسط الجديد: مصر والسعودية وصراع النفوذ الإقليمي
أثار تقرير حديث نشرته مجلة الإيكونوميست جدلاً واسعاً بوصفها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بـ"أكبر الخاسرين" في المشهد السياسي المتغير للشرق الأوسط. يعزو التقرير تراجع مكانة مصر إلى تحديات داخلية وتجاهل متعمد من دول الخليج، خاصة السعودية. يستعرض هذا المقال ديناميكيات السياسة الخارجية المصرية، التوترات مع السعودية، وتحركات القاهرة المفاجئة نحو إيران، والتي تشير إلى تحول محتمل في التحالفات الإقليمية.
التحديات الداخلية لمصر والعزلة الإقليمية
وفقاً لتقرير الإيكونوميست، يواجه الرئيس السيسي انتقادات بسبب ما وصفته المجلة بـ"مشاريع فاشلة" أثقلت كاهل الاقتصاد المصري دون تحقيق فوائد ملموسة. وأشار التقرير إلى اعتماد مصر على الدعم المالي من دول الخليج، الذي بدأ يتضاءل مع تزايد إحباط هذه الدول من سياسات السيسي وأسلوبه في الحكم. تجلى هذا الإحباط خلال زيارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية. في ولايته الأولى، حضر السيسي قمة بارزة في الرياض، مما عكس أهمية مصر الإقليمية. لكن في زيارته الأخيرة، تم تجاهل مصر بشكل واضح، وهو ما فسره التقرير على أنه إشارة متعمدة من السعودية وحلفائها.
تأكدت هذه العزلة في القمة العربية التي استضافتها بغداد، والتي حضرها السيسي برفقة قادة دول عربية أقل نفوذاً. قاطعت القمة معظم الزعماء العرب المؤثرين، مما دفع السيسي لإلقاء كلمة حملت عتباً ولوماً للعرب بسبب انقسامهم. هذا الحدث سلط الضوء على الشرخ المتزايد بين القاهرة والرياض، حيث تبادلت وسائل الإعلام في البلدين تصريحات تلمح إلى توترات عميقة في العلاقات المصرية-السعودية.
التقارب المصري-الإيراني: إعادة تموضع استراتيجي؟
كانت لحظة حاسمة في هذا السياق عندما التقى وزير الخارجية المصري سامح شكري بنظيره الإيراني عباس عراقجي، تلاها لقاء نادر بين السيسي وعراقجي. هذه اللقاءات تمثل تحولاً كبيراً في العلاقات المصرية-الإيرانية، التي ظلت باردة منذ الثورة الإيرانية عام 1979. يعود التوتر إلى قرار مصر في عهد الرئيس أنور السادات منح اللجوء لشاه إيران المخلوع، رافضة تسليمه للنظام الإيراني الجديد. ردت طهران بتسمية شارع في عاصمتها باسم قاتل السادات، مما عزز القطيعة بين البلدين لعقود.
شهدت العلاقات انفراجة مؤقتة في عهد الرئيس الإيراني محمد خاتمي في أواخر التسعينيات، لكن التقدم توقف بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. جاءت محاولة أخرى للتقارب في عهد الرئيس المصري محمد مرسي، الذي كسر القواعد التقليدية بزيارته لطهران، لتصبح الأولى لرئيس مصري منذ القطيعة. لكن مع عزل مرسي وصعود السيسي عام 2013، عادت العلاقات إلى البرود، بل وأرسل السيسي رسالة قوية لإيران حين حذرها بشأن البحرين.
كان اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 نقطة تحول. بدأ البلدان تبادل وجهات النظر حول إنهاء الصراع، لكن اللقاءات ظلت غير رسمية وعلى هامش الاجتماعات الدولية. الآن، تشير اللقاءات الرفيعة المستوى إلى استراتيجية مصرية أكثر جدية للتقارب مع إيران، مما يثير تساؤلات حول دوافع القاهرة.
تفسيرات التحركات المصرية
يقدم المحللون عدة تفسيرات للتقارب المصري-الإيراني:
- رد على السعودية: يرى البعض أن مصر تستخدم إيران كورقة ضغط لمواجهة تجاهل السعودية لها، معبرة عن استيائها من تنامي النفوذ السعودي في المنطقة.
- استفزاز الولايات المتحدة: يعتقد آخرون أن مصر تسعى لجذب انتباه واشنطن، التي تجاهلت القاهرة منذ عودة ترامب إلى السلطة.
- تنويع التحالفات: هناك من يرى أن مصر تهدف إلى تنويع تحالفاتها وتغيير المعادلة التقليدية في الشرق الأوسط، لتستعيد مكانتها كلاعب محوري في منطقة متعددة الأقطاب.
في صلب هذه التفسيرات تكمن العلاقة المتوترة بين القاهرة والرياض، خاصة فيما يتعلق بمستقبل سوريا.
العامل السوري وصراع النفوذ
أدى سقوط بشار الأسد وصعود أحمد الشرع في سوريا إلى تعميق الخلاف بين القاهرة والرياض. رحبت السعودية بالنظام السوري الجديد، معتبرة إياه حصناً ضد النفوذ الإيراني، حتى لو استفادت تركيا، الداعم الرئيسي للحكومة الجديدة. ترى الرياض أن تركيا تشكل تهديداً أقل بكثير من إيران، وتؤمن بقدرة الشرع على تحقيق توازن بين المصالح العربية والتركية.
على النقيض، ترى مصر أن النظام السوري الجديد، المدعوم من تركيا والفصائل الإسلامية، يشكل تهديداً لنفوذها الإقليمي. تتنافس مصر تاريخياً مع تركيا في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، وتخشى القاهرة من تعزيز مكانة أنقرة عبر التغيير في دمشق. ردًا على ذلك، أشارت مصر إلى تفضيلها للتقارب مع إيران، محذرة من أي تصعيد عسكري ضد طهران بسبب برنامجها النووي، وهو موقف يتعارض مع مخاوف دول الخليج من طموحات إيران.
الاستراتيجية الإقليمية المصرية
تمتد تحركات مصر إلى ما هو أبعد من إيران. تعزز القاهرة تركيزها على ليبيا والسودان، حيث تسعى لتوسيع نفوذها. في ليبيا، تدعم مصر الفصائل في الشرق ضد الحكومة المدعومة من تركيا في طرابلس. في السودان، تقدم القاهرة دعماً للجيش السوداني، رغم الانتقادات لارتباطه بجماعات إسلامية، وهو موقف يبدو متناقضاً مع معارضتها للنظام السوري المدعوم من الإسلاميين.
تعكس هذه التناقضات هدف مصر الأوسع: استعادة هيبتها التاريخية وقيادتها في العالم العربي. تشير تحركات القاهرة إلى رغبتها في مواجهة النفوذ السعودي المتزايد، خاصة في غزة، حيث سعت مصر لقيادة جهود إعادة الإعمار لكنها واجهت رفضاً من الرياض.
التنافس المصري-السعودي: محور مقابل محور؟
يعكس التنافس المتزايد بين القاهرة والرياض صراعاً على القيادة الإقليمية في شرق أوسط ما بعد التراجع الإيراني. استغلت السعودية ضعف إيران، موطدة علاقاتها مع النظام السوري الجديد وقيادة لبنان الناشئة. في المقابل، تبحث مصر عن حلفاء جدد في طهران، مع التركيز على ملفات ليبيا والسودان.
تظل غزة نقطة خلاف رئيسية. سعت مصر لتكون الوكيل الأساسي لإعادة إعمار القطاع، لكن السعودية رفضت ذلك، مما عمّق الخلاف. كما انتقدت القاهرة المصالحة السعودية مع إيران برعاية الصين، وتعامل الرياض مع الحوثيين في اليمن، الذي أضر بعوائد قناة السويس، وهي شريان اقتصادي حيوي لمصر.
خاتمة: منطقة في حالة تغيير
يمر الشرق الأوسط بتحول عميق، حيث تتنافس مصر والسعودية على النفوذ في منطقة تشكلت من جديد بعد تغيير النظام في سوريا وتراجع دور إيران. تحركات مصر نحو إيران، وتركيزها على ليبيا والسودان، وتوتراتها مع السعودية تشير إلى محاولة جريئة، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، لإعادة تعريف مكانتها الإقليمية. في المقابل، تعزز السعودية موقعها عبر تحالفاتها مع سوريا ولبنان، مدعومة بقوتها الاقتصادية.
كما يشير تقرير الإيكونوميست، قد يواجه السيسي تحديات كبيرة، لكن تحركات مصر توحي بأن القاهرة ليست مستعدة للتخلي عن دورها التاريخي. الصراع على قيادة المنطقة لم ينته بعد، وقد تكون غزة هي المعركة الحاسمة في هذا الفصل الجديد من الجيوسياسية في الشرق الأوسط.